الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِوَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَتَبْنَا عَلَى هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يُحَكِّمُونَكَ، يَا مُحَمَّدُ، وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: "وَكَتَبْنَا"، وَفَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنْ يَحْكُمُوا فِي النَّفْسِ إِذَا قَتَلَتْ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ "بِالنَّفْسِ"، يَعْنِي: أَنْ تُقْتَلَ النَّفْسُ الْقَاتِلَةُ بِالنَّفْسِ الْمَقْتُولَةِ، "وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ"، يَقُولُ: وَفَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنْ يَفْقَأُوا الْعَيْنَ الَّتِي فَقَأَ صَاحِبُهَا مِثْلَهَا مِنْ نَفْسٍ أُخْرَى بِالْعَيْنِ الْمَفْقُوءَةِ، وَيُجْدَعَ الْأَنْفُ بِالْأَنْفِ، وَتَقْطَعَ الْأُذُنُ بِالْأُذُنِ، وَتَقْلَعَ السِّنُّ بِالسِّنِّ، وَيُقْتَصَّ مِنَ الْجَارِحِ غَيْرِهِ ظُلْمًا لِلْمَجْرُوحِ. وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْيَهُودِ وَتَعْزِيَةٌ مِنْهُ لَهُ عَنْ كُفْرِ مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ بِهِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِنُبُوَّتِهِ، وَإِدْبَارِهِ عَنْهُ بَعْدَ إِقْبَالِهِ، وَتَعْرِيفٌ مِنْهُ لَهُ جَرَاءَتُهُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى رَبِّهِمْ وَعَلَى رُسُلِ رَبِّهِمْ، وَتَقَدُّمِهِمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُ: وَكَيْفَ يَرْضَى هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ، يَا مُحَمَّدُ، بِحُكْمِكَ، إِذَا جَاءُوا يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ الَّتِي يُقِرُّونَ بِهَا أَنَّهَا كِتَابِي وَوَحْيِي إِلَى رَسُولِي مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهَا حُكْمِي بِالرَّجْمِ عَلَى الزُّنَاةِ الْمُحْصَنِينَ، وَقَضَائِي بَيْنَهُمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفَسًا ظُلْمًا فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ، وَمَنْ فَقَأَ عَيْنًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَيْنُهُ بِهَا مَفْقُوءَةٌ قِصَاصًا، وَمَنْ جَدَعَ أَنْفًا فَأَنْفُهُ بِهِ مَجْدُوعٌ، وَمَنْ قَلَعَ سِنًّا فَسِنُّهُ بِهَا مَقْلُوعَةٌ، وَمَنْ جَرَحَ غَيْرَهُ جَرْحًا فَهُوَ مُقْتَصٌّ مِنْهُ مِثْلَ الْجَرْحِ الَّذِي جَرَحَهُ؟ ثُمَّ هُمْ مَعَ الْحُكْمِ الَّذِي عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَحْكَامِي، يَتَوَلَّوْنَ عَنْهُ وَيَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِهِ، يَقُولُ: فَهُمْ بِتَرْكِ حُكْمِكَ، وَبِسُخْطِ قَضَائِكَ بَيْنَهُمْ، أَحْرَى وَأَوْلَى. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: لَمَّا رَأَتْ قُرَيْظَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ، وَكَانُوا يُخْفُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ، نَهَضَتْ قُرَيْظَةُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا بَنِي النَّضِيرِ وَكَانَ بَيْنَهُمْ دَمٌ قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ النَّضِيرُ يَتَعَزَّزُونَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَدِيَاتُهُمْ عَلَى أَنْصَافِ دِيَاتِ النَّضِيرِ، وَكَانَتِ الدِّيَةُ مِنْ وُسُوقِ التَّمْرِ: أَرْبَعِينَ وَمِئَةَ وَسْقٍ لِبَنِي النَّضِيرِ، وَسَبْعِينَ وَسْقًا لِبَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ: دَمُ الْقُرَظِيِّ وَفَاءٌ مِنْ دَمِ النَّضِيرِيِّ! فَغَضِبَ بَنُو النَّضِيرِ وَقَالُوا: لَا نُطِيعُكَ فِي الرَّجْمِ، وَلَكِنْ نَأْخُذُ بِحُدُودِنَا الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا! فَنَزَلَتْ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 50] وَنَزَلَ: " {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} "، الْآيَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} "، قَالَ: فَمَا بَالُهُمْ يُخَالِفُونَ، يَقْتُلُونَ النَّفْسَيْنِ بِالنَّفْسِ، وَيَفْقَأُونَ الْعَيْنَيْنِ بِالْعَيْنِ؟ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا خَلَّادٌ الْكُوفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ قِتَالٌ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى، وَكَانَ لِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ طَوْلٌ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعْلَ يَجْعَلُ الْحُرَّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدَ بِالْعَبْدِ، وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ، فَنَزَلَتْ: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 178] قَالَ سُفْيَانُ: وَبَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَسَخَتْهَا: " {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} " فِيهَا فِي التَّوْرَاةِ-"وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" حَتَّى: " {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} "، قَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، لَيْسَ بَيْنَهُمْ دِيَةٌ فِي نَفْسٍ وَلَا جُرْحٍ. قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "وَكَتَبَنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا" فِي التَّوْرَاةِ، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الدِّيَةَ فِي النَّفْسِ وَالْجِرَاحِ، وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} "، قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ تُجْعَلْ لَهُمْ دِيَةٌ فِيمَا كَتَبَ اللَّهُ لِمُوسَى فِي التَّوْرَاةِ مِنْ نَفْسٍ قُتِلَتْ، أَوْ جُرْحٌ، أَوْ سِنٌّ، أَوْ عَيْنٌ، أَوْ أَنْفٌ. إِنَّمَا هُوَ الْقِصَاصُ، أَوِ الْعَفْوُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: "وَكَتَبَنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا"، أَيْ فِي التَّوْرَاةِ"أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ". حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "وَكَتَبَنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا"، أَيْ فِي التَّوْرَاةِ، بِأَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "وَكَتَبَنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" حَتَّى بَلَغَ " وَالْجُرُوحِ قِصَّاصٌ "، بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ"، قَالَ يَقُولُ: تُقْتَلُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَتُفْقَأُ الْعَيْنُ بِالْعَيْنِ، وَيَقْطَعُ الْأَنْفُ بِالْأَنْفِ، وَتُنْزَعُ السِّنُّ بِالسِّنِّ، وَتُقْتَصُّ الْجِرَاحُ بِالْجِرَاحِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ أَحْرَارُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، إِذَا كَانَ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَبِيدُ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، إِذَا كَانَ عَمْدًا فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِهِ: "فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ الْمَجْرُوحَ وَوَلِيَّ الْقَتِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَ: يُهْدَمُ عَنْهُ يَعْنِي الْمَجْرُوحَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ ذُنُوبِهِ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَبِي الْعُرْيَانِ قَالَ: رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ قَاعِدًا عَلَى السَّرِيرِ، وَإِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مَوْلىً وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَ: يُهْدَمُ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ مِثْلَ مَا تُصَدِّقُ بِهِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا مُغَيِّرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَ: لِلْمَجْرُوحِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ أَبِي عُقْبَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَ: لِلْمَجْرُوحِ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنِي حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ، أَخْبَرَنِي عُمَارَةُ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ حَرَمَيٌّ: نَسِيتُ اسْمَهُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَ: لِلْمَجْرُوحِ. حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ قَالَ: دَفَعَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْدَقَّتْ ثَنِيَّتُهُ، فَرَفَعَهُ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى مُعَاوِيَةَ. فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ الرَّجُلُ قَالَ مُعَاوِيَةُ: شَأْنَكَ وَصَاحِبَكَ! قَالَ: وَأَبُو الدَّرْدَاءِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَيَهَبُهُ، إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً.» فَقَالَ لَهُ الْأَنْصَارِيُّ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي! فَخَلَّى سَبِيلَ الْقُرَشِيِّ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَرُّوا لَهُ بِمَالٍ. حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ، قَالَ ابْنُ الصَّامِتِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ جُرِحَ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَتَصَدَّقُ بِهَا، كُفِّرَ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِمِثْلِ مَا تُصَدِّقُ بِه». حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَ: كَفَّارَةٌ لِلْمَجْرُوحِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ زَكَرِيَّا قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ: كَفَّارَةٌ لِمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، يَقُولُ: لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الَّذِي عَفَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي شَبِيبُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ أَبِي الْعُرْيَانِ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ، وَإِذَا بِرَجُلٍ مَعَ مُعَاوِيَةَ قَاعِدٍ عَلَى السَّرِيرِ كَأَنَّهُ مَوْلًى، قَالَ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ هَدَمَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَهُ مِنْ ذُنُوبِهِ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ الْجَارِحَ. وَقَالُوا: مَعْنَى الْآيَةِ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِمَا وَجَبَ لَهُ مِنْ قَوْدٍ أَوْ قِصَاصٍ عَلَى مَنْ وَجَبَ ذَلِكَ لَهُ عَلَيْهِ، فَعَفَا عَنْهُ، فَعَفْوُهُ ذَلِكَ عَنِ الْجَانِي كَفَّارَةٌ لِذَنْبِ الْجَانِي الْمُجْرِمِ، كَمَا الْقِصَاصُ مِنْهُ كَفَّارَةٌ لَهُ. قَالُوا: فَأَمَّا أَجْرُ الْعَافِي الْمُتَصَدِّقِ، فَعَلَى اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَ: كَفَّارَةٌ لِلْجَارِحِ، وَأَجْرُ الَّذِي أُصِيبَ عَلَى اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ لِأَبِي إِسْحَاقَ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، يَا أَبَا إِسْحَاقَ، [لِمَنْ]؟ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لِلْمُتَصَدِّقِ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِلْمُذْنِبِ الْجَارِحِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، قَالَ مُغِيرَةُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: لِلْجَارِحِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَا: لِلَّذِي تُصُدِّقَ عَلَيْهِ، وَأَجْرُ الَّذِي أُصِيبَ عَلَى اللَّهِ، قَالَ هَنَّادٌ فِي حَدِيثِهِ، قَالَا: كَفَّارَةٌ لِلَّذِي تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: كَفَّارَةٌ لِمَنْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالَا: كَفَّارَةٌ لِلْجَارِحِ، وَأَجْرُ الَّذِي أُصِيبَ عَلَى اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ يَقُولُ: إِنْ عَفَا عَنْهُ، أَوِ اقْتَصَّ مِنْهُ، أَوْ قَبِلَ مِنْهُ الدِّيَةَ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَفَّارَةٌ لِلْجَارِحِ، وَأَجْرٌ لِلْعَافِي، لِقَوْلِهِ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [سُورَةُ الشُّورَى: 40]. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَ: كَفَّارَةٌ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَ: هِيَ كَفَّارَةٌ لِلْجَارِحِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، قَالَ: فَالْكَفَّارَةُ لِلْجَارِحِ، وَأَجْرُ الْمُتَصَدِّقِ عَلَى اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، يَقُولُ: لِلْقَاتِلِ، وَأَجْرٌ لِلْعَافِي. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمْرَانُ بْنُ ظَبْيَانَ، عَنْ عُدَيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، هُتِمَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ مُعَاوِيَةَ، فَأُعْطِيَ دِيَةً فَلَمْ يَقْبَلْ، ثُمَّ أُعْطِيَ دِيَتَيْنِ فَلَمْ يَقْبَلْ، ثُمَّ أُعْطِيَ ثَلَاثًا فَلَمْ يَقْبَلْ. فَحَدَّثَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «فَمِنْ تَصَدَّقَ بِدَمٍ فَمَا دُونَهُ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ مِنْ يَوْمِ تَصَدَّقَ إِلَى يَوْمِ وُلِد» ". قَالَ: فَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "، يَقُولُ: مَنْ جُرِحَ فَتَصَدَّقَ بِالَّذِي جُرِحَ بِهِ عَلَى الْجَارِحِ، فَلَيْسَ عَلَى الْجَارِحِ سَبِيلٌ وَلَا قَوَدٌ وَلَا عَقْلٌ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ الَّذِي جُرِحَ، فَكَانَ كَفَّارَةً لَهُ مِنْ ظُلْمِهِ الَّذِي ظَلَمَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِهِ: " {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} "الْمَجْرُوحُ، فَلَأَنْ تَكُون" الْهَاءُ "فِي قَوْلِهِ: " لَهُ "عَائِدَةً عَلَى" مَن" أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ مَنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ إِلَّا بِالْمَعْنَى دُونَ التَّصْرِيحِ وَأَحْرَى، إِذِ الصَّدَقَةُ هِيَ الْمُكَفِّرَةُ ذَنْبَ صَاحِبِهَا دُونَ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الصَّدَقَاتِ غَيْرِ هَذِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنَّ يَكُونَ سَبِيلُ هَذِهِ سَبِيلَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْقِصَاصَ إِذْ كَانَ يُكَفِّرُ ذَنْبَ صَاحِبِهِ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ الَّذِي أَتَاهُ فِي قَتْلِ مَنْ قَتَلَهُ ظُلْمًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَخَذَ الْبَيْعَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ "«أَنْ لَا تَقْتُلُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَسْرِقُوا" ثُمَّ قَالَ: "فَمَنْ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ فَهُوَ كَفَّارَتُه»" فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ عَفْوُ الْعَافِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوْ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ عَنْهُ نَظِيرَهُ، فِي أَنَّ ذَلِكَ لَهُ كَفَّارَةٌ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ عَنْ قَاذِفِهِ بِالزِّنَا وَتَرْكُهُ أَخْذَهُ بِالْوَاجِبِ لَهُ مِنَ الْحَدِّ وَقَدْ قَذَفَهُ قاذِفُهُ وَهُوَ عَفِيفٌ مُسْلِمٌ مُحْصَنٌ كَفَّارَةً لِلْقَاذِفِ مِنْ ذَنْبِهِ الَّذِي رَكِبَهُ، وَمَعْصِيَتِهِ الَّتِي أَتَاهَا. وَذَلِكَ مَا لَا نَعْلَمُ قَائِلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُهُ. فَإِذْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْمَقْذُوفِ الَّذِي وَصَفْنَا أَمْرَهُ أَخْذَ قَاذِفِهِ بِالْوَاجِبِ لَهُ مِنَ الْحَدِّ كَفَّارَةً لِلْقَاذِفِ مِنْ ذَنْبِهِ الَّذِي رَكِبَهُ، كَانَ كَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْمَجْرُوحِ أَخْذَ الْجَارِحِ بِحَقِّهِ مِنَ الْقِصَاصِ، كَفَّارَةً لِلْجَارِحِ مِنْ ذَنْبِهِ الَّذِي رَكِبَهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِل: أَوَلَيْسَ لِلْمَجْرُوحِ عِنْدَكَ أَخْذُ جَارِحِهِ بِدِيَةِ جُرْحِهِ مَكَانَ الْقِصَاصِ؟ قِيلَ لَهُ: بَلَى! فَإِنْ قَالَ: أَفَرَأَيْتَ لَوِ اخْتَارَ الدِّيَةَ ثُمَّ عَفَا عَنْهَا، أَكَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ فِي الْآخِرَةِ تَبِعَةٌ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا كَلَامٌ عِنْدِنَا مُحَالٌ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَنَا مُخْتَارًا لِدِيَةٍ إِلَّا وَهُوَ لَهَا آخِذٌ. فَأَمَّا الْعَفْوُ فَإِنَّمَا هُوَ عَفْوٌ عَنِ الدَّمِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا، بِمَا أَغْنَى عَنْ تَكْرِيرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِذَلِكَ هِبَتُهَا لِمَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ بَعْدَ الْأَخْذِ. مَعَ أَنَّ عَفْوَهُ عَنِ الدِّيَةِ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ إِيَّاهَا لَوْ صَحَّ، لَمْ يَكُنْ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْفُوُّ لَهُ عَنْهَا بَرِيئًا مِنْ عُقُوبَةِ ذَنْبِهِ عِنْدَ اللَّهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَوْعَدَ قَاتِلَ الْمُؤْمِنِ بِمَا أَوْعَدَهُ بِهِ إِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَنْبِهِ، وَالدِّيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ، أَحَبَّ أَمْ سَخِطَ. وَالتَّوْبَةُ مِنَ التَائِبِ إِنَّمَا تَكُونُ تَوْبَةً إِذَا اخْتَارَهَا وَأَرَادَهَا وَآثَرَهَا عَلَى الْإِصْرَارِ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَفَّارَةً، كَمَا كَانَ الْقِصَاصُ لَهُ كَفَّارَةً، فَإِنَّا إِنَّمَا جَعَلَنَا الْقِصَاصَ لَهُ كَفَارَّةً مَعَ نَدَمِهِ وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ لِأَخْذِ الْحَقِّ مِنْهَا تَنَصُّلًا مِنْ ذَنْبِهِ، بِخَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا الدِّيَةُ إِذَا اخْتَارَهَا الْمَجْرُوحُ ثُمَّ عَفَا عَنْهَا، فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِحَدِّ ذَنْبِهِ، فَيَكُونُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي حِكَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ: " «فَمِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَهُوَ كَفَّارَتُه» ". ثُمَّ مِمَّا يُؤَكِّدُ صِحَّةَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، الْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: " «فَمِنْ تَصَدَّقَ بِدَم» "، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدْ ذَكَرْنَاهَا قَبْلُ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُونَ إِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ الْجَارِحَ، أَرَادُوا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ الَّذِي:- حَدَّثَنِي بِهِ الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِذَا أَصَابَ رَجُلٌ رَجُلًا وَلَا يَعْلَمُ الْمُصَابُ مَنْ أَصَابَهُ، فَاعْتَرَفَ لَهُ الْمُصِيبُ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْمُصِيبِ. قَالَ: وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ عِنْدَ هَذَا: أَصَابَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَيْنَ إِنْسَانٍ عِنْدَ الرُّكْنِ فِيمَا يَسْتَلِمُونَ، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، أَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِكَ بَأْسٌ فَأَنَا بِهَا ! وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ مِنَ الْجَارِحِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ مِنْ عُرْوَةَ مِنْ خَطَأِ فِعْلٍ عَلَى غَيْرِ عَمْدٍ، ثُمَّ اعْتَرَفَ لِلَّذِي أَصَابَهُ بِمَا أَصَابَهُ، فَعَفَا لَهُ الْمُصَابُ بِذَلِكَ عَنْ حَقِّهِ قِبَلَهُ، فَلَا تَبِعَةَ لَهُ حِينَئِذٍ قِبَلَ الْمُصِيبِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. لِأَنَّ الَّذِي كَانَ وَجَبَ لَهُ قِبَلَهُ مَالٌ لَا قِصَاصٌ، وَقَدْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ: فَإِبْرَاؤُهُ مِنْهُ، كَفَّارَةٌ لِلْمُبَرَّأِ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي كَانَ لَهُ أَخْذُهُ بِهِ، فَلَا طِلْبَةَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ قِبَلَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَا عُقُوبَةَ تَلْزَمُهُ بِهَا بِمَا كَانَ مِنْهُ إِلَى مَنْ أَصَابَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِصَابَتَهُ بِمَا أَصَابَهُ بِهِ، فَيَكُونُ بِفِعْلِهِ آثِمًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنْ رَبِّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَضَعَ الْجُنَاحَ عَنْ عِبَادِهِ فِيمَا أَخْطَأُوا فِيهِ وَلَمْ يَتَعَمَّدُوهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 5] و"التَّصَدُّقُ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالدَّمِ الْعَفْوُ عَنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ قَوَدِ النَّفْسِ الْقَاتِلَةِ قِصَاصًا بِالنَّفْسِ الْمَقْتُولَةِ ظُلْمًا. وَلَمْ يَفْقَأْ عَيْنَ الْفَاقِئِ بِعَيْنِ الْمَفْقُوءِ ظُلْمًا، قِصَاصًا مِمَّنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلَكِنْ أَقَادَ مِنْ بَعْضٍ وَلَمْ يُقِدْ مِنْ بَعْضٍ، أَوْ قَتَلَ فِي بَعْضٍ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ، فَإِنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنَ "الظَّالِمِينَ" يَعْنِي: مِمَّنْ جَارَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ، وَوَضَعَ فِعْلَهُ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ مَوْضِعًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِوَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: "وَقْفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ"، أَتْبَعْنَا. يَقُولُ: أَتْبَعْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَى آثَارِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ، فَبَعَثْنَاهُ نَبِيًّا مُصَدِّقًا لِكِتَابِنَا الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَى مُوسَى مِنْ قَبْلِهِ أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا لَمْ يَنْسَخْهُ الْإِنْجِيلُ مِنْهُ فَرْضٌ وَاجِبٌ"وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ"، يَقُولُ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْهِ كِتَابَنَا الَّذِي اسْمُهُ "الْإِنْجِيلُ" "فِيهِ هُدًى وَنُورٌ" يَقُولُ: فِي الْإِنْجِيلِ "هُدًى"، وَهُوَ بَيَانُ مَا جَهِلَهُ النَّاسُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ فِي زَمَانِهِ "وَنُورٌ"، يَقُولُ: وَضِيَاءٌ مِنْ عَمَى الْجَهَالَةِ" وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ"، يَقُولُ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ وَأَنْزَلْنَاهُ إِلَيْهِ بِتَصْدِيقِ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي كَانَ أَنْزَلَهَا عَلَى كُلِّ أَمَةٍ أُنْزِلَ إِلَى نَبِيِّهَا كِتَابٌ لِلْعَمَلِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى نَبِيِّهِمْ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، مِنْ تَحْلِيلِ مَا حُلِّلَ، وَتَحْرِيمِ مَا حُرِّمَ "وَهَدًى وَمَوْعِظَةً"، يَقُولُ: أَنْزَلْنَا الْإِنْجِيلَ إِلَى عِيسَى مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَبَيَانًا لِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ فِي زَمَانِ عِيسَى، "وَمَوْعِظَةً"، لَهُمْ يَقُولُ: وَزَجْرًا لَهُمْ عَمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَتَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَيْهِ. و"الْمُتَّقُونَ"، هُمُ الَّذِينَ خَافُوا اللَّهَ وَحَذِرُوا عِقَابَهُ، فَاتَّقَوْهُ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ، وَحَذِرُوهُ بِتَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْ فِعْلِهِ. وَقَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنْ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ قَبْلُ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِوَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: "وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ". فَقَرَأَتْهُ قَرَأَةُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: "وَلْيَحْكُمْ" بِتَسْكِينِ "اللَّامِ"، عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِنْجِيلِ: أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَكَأَنَّ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، أَرَادَ: وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَمَرْنَا أَهْلَهُ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، تُرِكَ اسْتِغْنَاءً بِمَا ذُكِرَ عَمَّا حُذِفَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: {وَلِيَحْكُمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ} بِكَسْرِ "اللَّامِ"، مِنْ "لِيَحْكُمَ"، بِمَعْنَى: كَيْ يَحْكُمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ. وَكَأَنَّ مَعْنَى مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، كَيْ يَحْكُمَ أَهْلُهُ بِمَا فِيهِ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ. وَالَّذِي نَقُولُ بِهِ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيِ ذَلِكَ قَرَأَ قَارِئٌ فَمُصِيبٌ فِيهِ الصَّوَابَ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ كِتَابًا عَلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ إِلَّا لِيَعْمَلَ بِمَا فِيهِ أَهْلُهُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَلَمْ يُنْزِلْهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، فَلِلْعَمَلِ بِمَا فِيهِ أَنْزَلَهُ، وَأَمْرًا بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ أَنْزَلَهُ. فَكَذَلِكَ الْإِنْجِيلُ، إِذْ كَانَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ، فَلِلْعَمَلِ بِمَا فِيهِ أَنْزَلَهُ عَلَى عِيسَى، وَأَمْرًا بِالْعَمَلِ بِهِ أَهْلَهُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ. فَسَوَاءٌ قُرِئَ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِتَسْكِينِ "اللَّامِ"، أَوْ قُرِئَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ بِكَسْرِهَا، لِاتِّفَاقِ مَعْنَيَيْهِمَا. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ مِنْ قِرَاءَتِهِ ذَلِكَ (وَأَنْ لِيَحْكُمْ) عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ، فَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَصِحَّ بِهِ النَّقْلُ عَنْهُ. وَلَوْ صَحَّ أَيْضًا، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ بِخِلَافِهِ مَحْظُورَةً، إِذْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا، وَكَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقَرَأَةِ قَدْ قَرَأُوا بِهَا. وَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَا قُرِئَ بِكَسْرِ "اللَّامِ" مِنْ "لِيَحْكُمْ": وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَكَيْ يَحْكُمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلْنَا فِيهِ، فَبَدَّلُوا حُكْمَهُ وَخَالَفُوهُ، فَضَلُّوا بِخِلَافِهِمْ إِيَّاهُ إِذْ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَخَالَفُوهُ"فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، يَعْنِي: الْخَارِجِينَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ، الْمُخَالِفِينَ لَهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ فِي كِتَابِهِ. فَأَمَّا إِذَا قُرِئَ بِتَسْكِينِ "اللَّامِ"، فَتَأْوِيلُهُ: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَأَمَرْنَا أَهْلَهُ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلْنَا فِيهِ، فَلَمْ يُطِيعُونَا فِي أَمْرِنَا إِيَّاهُمْ بِمَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُمْ خَالَفُوا أَمْرَنَا، فَالَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَنَا الَّذِي أَمَرْنَاهُمْ بِهِ فِيهِ، هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: "الفَاسِقُونَ"، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي غَيْرِهِ، هُمُ الْكَاذِبُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} "، قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ أَيْضًا بِذَلِكَ"فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، قَالَ: الْكَاذِبُونَ. بِهَذَا قَالَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا قَلِيلًا "فَاسِقٌ" فَهُوَ كَاذِبٌ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: 6] قَالَ: " الْفَاسِقُ "، هَهُنَا، كَاذِبٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "الفِسْقِ" بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، "الْكِتَابَ"، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: "بِالْحَقِّ" بِالصِّدْقِ، وَلَا كَذِبَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ "مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ"، يَقُولُ: أَنْزَلْنَاهُ بِتَصْدِيقِ مَا قَبْلَهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا إِلَى أَنْبِيَائِهِ "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، يَقُولُ: أَنْزَلْنَا الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مُصَدِّقًا لِلْكُتُبِ قَبْلَهُ، وَشَهِيدًا عَلَيْهَا أَنَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَمِينًا عَلَيْهَا، حَافِظًا لَهَا. وَأَصْل "الهَيْمَنَةِ"، الْحِفْظُ وَالِارْتِقَابُ. يُقَالُ، إِذَا رَقَبَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ وَحَفِظَهُ وَشَهِدَهُ: "قَدْ هَيْمَنَ فُلَانٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ يُهَيْمِنُ هَيْمَنَةً، وَهُوَ عَلَيْهِ مُهَيْمِنٌ". وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ عَنْهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: شَهِيدًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، يَقُولُ: شَهِيدًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، قَالَ: شَهِيدًا عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} "، يَقُولُ: الْكُتُبِ الَّتِي خَلَتْ قَبْلَهُ"وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، أَمِينًا وَشَاهِدًا عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي خَلَتْ قَبْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، مُؤْتَمَنًا عَلَى الْقُرْآنِ، وَشَاهِدًا وَمُصَدِّقً وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى الْكُتُبِ فِيمَا إِذَا أَخْبَرَنَا أَهْلُ الْكِتَابِ فِي كِتَابِهِمْ بِأَمْرٍ، إِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ فَصَدَقُوا، وَإِلَّا فَكَذَبُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: أَمِينٌ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَحَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ جَمِيعًا، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، قَالَ: مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبِيدٍ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} "، قَالَ: مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَإِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ وَإِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ تَمِيمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، قَالَ: وَالْمُهَيْمِنُ الْأَمِينُ: قَالَ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} "، وَهُوَ الْقُرْآنُ، شَاهِدٌ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، مُصَدِّقًا لَهُمَا "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، يَعْنِي: أَمِينًا عَلَيْهِ، يَحْكُمُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، قَالَ: مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، قَالَ: مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ وَإِسْرَائِيلَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" قَالَ: مُؤْتَمَنًا عَلَى مَا قَبْلُهُ مِنَ الْكُتُبِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْحُسَيْنَ عَنْ قَوْلِهِ: " {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} "، قَالَ: مُصَدِّقًا لِهَذِهِ الْكُتُبِ، وَأَمِينًا عَلَيْهَا. وَسُئِلَ عَنْهَا عِكْرِمَةُ وَأَنَا أَسْمَعُ فَقَالَ: مُؤْتَمَنًا عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى "المُهَيْمِنِ"، الْمُصَدِّقُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} "، قَالَ: مُصَدِّقًا عَلَيْهِ. كُلُّ شَيْءٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ تَوْرَاةٍ أَوْ إِنْجِيلٍ أَوْ زَبُورٍ، فَالْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ عَلَى ذَلِكَ. وَكُلُّ شَيْءٍ ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، فَهُوَ مُصَدِّقٌ عَلَيْهَا وَعَلَى مَا حُدِّثَ عَنْهَا أَنَّهُ حَقٌّ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: "مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} "، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ"، قَالَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْقُرْآنِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ مُجَاهِدٌ: وَأَنْزَلْنَا الْكِتَابَ مُصَدِّقًا الْكُتُبَ قَبْلَهُ إِلَيْكَ، مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: "مُصَدِّقًا" حَالًا مِنَ "الْكِتَابِ" وَبَعْضًا مِنْهُ، وَيَكُونُ "التَّصْدِيقُ" مِنْ صِفَةِ "الْكِتَابِ"، و"الْمُهَيْمِنُ" حَالًا مِنْ "الْكَافِ" الَّتِي فِي"إِلَيْكَ"، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و"الْهَاءُ" فِي قَوْلِهِ: "عَلَيْهِ"، عَائِدَةٌ عَلَى الْكِتَابِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ مِنَ الْمَفْهُومِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، بَلْ هُوَ خَطَأٌ. وَذَلِكَ أَنَّ "الْمُهَيْمِنَ" عُطِفَ عَلَى "المُصَدِّقِ"، فَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ صِفَةِ مَا كَانَ "الْمُصَدِّقُ" صِفَةً لَهُ. وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، لَقِيلَ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ " لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ صِفَةِ "الْكَافِ" الَّتِي فِي"إِلَيْكَ" بَعْدَهَا شَيْءٌ يَكُونُ"مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" عَطْفًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا عُطِفَ بِهِ عَلَى "الْمُصَدِّقِ"، لِأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ "الْكِتَابِ" الَّذِي مِنْ صِفَتِهِ "الْمُصَدِّقُ". فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ "الْمُصَدِّقَ" عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَتَأْوِيلِهِ هَذَا مِنْ صِفَةِ "الْكَافِ" الَّتِي فِي "إِلَيْكَ"، فَإِنَّ قَوْلَهُ: "لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ"، يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ "الْمُصَدِّقُ" مِنْ صِفَةِ "الْكَافِ" الَّتِي فِي "إِلَيْكَ". لِأَنَّ "الْهَاءَ" فِي قَوْلِهِ: "بَيْنَ يَدَيْهِ"، كِنَايَةُ اسْمِ غَيْرِ الْمُخَاطَبِ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ"إِلَيْكَ". وَلَوْ كَانَ "الْمُصَدِّقُ" مِنْ صِفَةِ "الْكَافِ" لَكَانَ الْكَلَامُ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ، وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ كَذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْمُحْتَكِمِينَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ بِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي خَصَّهُ بِشَرِيعَتِهِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: احْكُمْ يَا مُحَمَّدُ، بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِي وَأَحْكَامِي فِي كُلِّ مَا احْتَكَمُوا فِيهِ إِلَيْكَ، مِنَ الْحُدُودِ وَالْجُرُوحِ وَالْقَوَدِ وَالنُّفُوسِ، فَارْجُمِ الزَّانِي الْمُحْصَنَ، وَاقْتُلِ النَّفْسَ الْقَاتِلَةَ بِالنَّفْسِ الْمَقْتُولَةِ ظُلْمًا، وَافْقَأِ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَاجْدَعِ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، فَإِنِّي أَنْزَلْتُ إِلَيْكَ الْقُرْآنَ مُصَدِّقًا فِي ذَلِكَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ، وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ رَقِيبًا، يَقْضِي عَلَى مَا قَبْلُهُ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ قَبْلَهُ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنْ أُوتِيتُمُ الْجَلْدَ فِي الزَّانِي الْمُحْصَنِ دُونَ الرَّجْمِ، وَقَتْلَ الْوَضِيعِ بِالشَّرِيفِ إِذَا قَتَلَهُ، وَتَرْكَ قَتْلِ الشَّرِيفِ بِالْوَضِيعِ إِذَا قَتَلَهُ فَخُذُوهُ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا عَنِ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْحَقِّ، وَهُوَ كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ. يَقُولُ لَهُ: اعْمَلْ بِكِتَابِي الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ إِذَا احْتَكَمُوا إِلَيْكَ فَاخْتَرْتَ الْحُكْمَ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَتْرُكُنَّ الْعَمَلَ بِذَلِكَ اتِّبَاعًا مِنْكَ أَهْوَاءَهُمْ، وَإِيثَارًا لَهَا عَلَى الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ فِي كِتَابِي، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} "، يَقُولُ: بِحُدُودِ اللَّهِ" {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} ". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا هَارُونُ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 49]، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 151].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لِكُلِّ قَوْمٍ مِنْكُمْ جَعَلْنَا شِرْعَةً. و"الشِّرْعَةُ" هِيَ "الشَّرِيعَةُ" بِعَيْنِهَا، تَجْمَعُ "الشِّرْعَةَ" "شِرَعًا"، "وَالشَّرِيعَةَ" "شَرَائِعَ". وَلَوْ جَمَعْتَ "الشِّرْعَةَ" "شَرَائِعَ"، كَانَ صَوَابًا، لِأَنَّ مَعْنَاهَاوَمَعْنَى "الشَّرِيعَةِ" وَاحِدٌ، فَيَرُدُّهَا عِنْدَ الْجَمْعِ إِلَى لَفْظِ نَظِيرِهَا. وَكُلُّ مَا شَرَعْتَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ "شَرِيعَةٌ". وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ: لِشَرِيعَةِ الْمَاءِ "شَرِيعَةٌ"، لِأَنَّهُ يُشْرَعُ مِنْهَا إِلَى الْمَاءِ. وَمِنْهُ سُمِّيَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ"شَرَائِعَ"، لِشُرُوعِ أَهْلِهِ فِيهِ. وَمِنْهُ قِيلٌ لِلْقَوْمِ إِذَا تَسَاوَوْا فِي الشَّيْءِ: "هُمْ شَرَعٌ"، سَوَاءٌ. وَأَمَّا "المِنْهَاجُ"، فَإِنَّ أَصْلَهُ: الطَّرِيقُ الْبَيِّنُ الْوَاضِحُ، يُقَالُ مِنْهُ: "هُوَ طَرِيقٌ نَهْجٌ، وَمَنْهَجٌ "، بَيِّنٌ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: مَـنْ يَـكُ فِـي شَـكٍّ فَهـذَا فَلْـجُ *** مَـاءٌ رَوَاءٌ وَطَـرِيقٌ نَهْـجُ ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَانَ بَيِّنًا وَاضِحًا سَهْلًا. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: لِكُلِّ قَوْمٍ مِنْكُمْ جَعَلْنَا طَرِيقًا إِلَى الْحَقِّ يَؤُمُّهُ، وَسَبِيلًا وَاضِحًا يَعْمَلُ بِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلِّ مِلَّةٍ شَرِيعَةً وَمِنْهَاجًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} " يَقُولُ: سَبِيلًا وَسُنَّةً. وَالسُّنَنُ مُخْتَلِفَةٌ: لِلتَّوْرَاةِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْإِنْجِيلِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْقُرْآنِ شَرِيعَةٌ، يُحِلُّ اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ بَلَاءً، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ. وَلَكِنَّ الدِّينَ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ: التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ، الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} "، قَالَ: الدِّينُ وَاحِدٌ، وَالشَّرِيعَةُ مُخْتَلِفَةٌ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الْإِيمَانُ مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِكُلِّ قَوْمٍ مَا جَاءَهُمْ مِنْ شِرْعَةٍ أَوْ مِنْهَاجٍ، فَلَا يَكُونُ الْمُقِرُّ تَارِكًا، وَلَكِنَّهُ مُطِيعٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالُوا: إِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: قَدْ جَعَلْنَا الْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيُّهَا النَّاسُ، لِكُلِّكُمْ، أَيْ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَقَرَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لِي نَبِيٌّ " شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: " {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} " قَالَ: سُنَّةً، "وَمِنْهَاجًا"، السَّبِيلُ "لِكُلِّكُمْ"، مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا. يَقُولُ: الْقُرْآنُ، هُوَ لَهُ شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: لِكُلِّ أَهْلِ مِلَّةٍ مِنْكُمْ، أَيُّهَا الْأُمَمُ جَعَلْنَا شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِقَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} وَلَوْ كَانَ عَنَى بِقَوْلِهِ: "لِكُلِّ جَعْلِنَا مِنْكُمْ"، أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لِجَعْلِكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً"، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ فَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً معنىً مَفْهُومٌ. وَلَكِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى مَا جَرَى بِهِ الْخُطَّابُ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَكَرَ مَا كَتَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ قَفَّى بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَى آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْإِنْجِيلَ، وَأَمَرَ مَنْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ أَنْزَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ، وَأَمَرَهُ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَالْحُكْمِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ فِيهِ دُونَ مَا فِي سَائِرِ الْكُتُبِ غَيْرِهِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ شَرِيعَةً غَيْرَ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ قَبْلَهُ الَّذِينَ قَصَّ عَلَيْهِمْ قِصَصَهُمْ، وَإِنْ كَانَ دِينُهُ وَدِينُهُمْ- فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ- وَاحِدًا، فَهُمْ مُخْتَلِفُو الْأَحْوَالِ فِيمَا شَرَعَ لَكُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلِأُمَّتِهِ فِيمَا أُحِلَّ لَهُمْ وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي "الشِّرْعَةِ" و"الْمِنْهَاجِ" مِنَ التَّأْوِيلِ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} " قَالَ: سُنَّةً وَسَبِيلًا. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ وَإِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} "، قَالَ: سُنَّةً وَسَبِيلًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ وَإِسْرَائِيلَ وَأَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: " {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} "، قَالَ: سُنَّةً وَسَبِيلًا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} "، قَالَ: سُنَّةً وَسَبِيلًا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِمَثَلِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حُكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} " يَعْنِي: سَبِيلًا وَسُنَّةً. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: "الشِّرْعَةُ"، السُّنَّةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سُنَّةً وَسَبِيلًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا"، قَالَ: "الشِّرْعَةُ"، السُّنَّةُ"وَمِنْهَاجًا"، قَالَ: السَّبِيلُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} "، يَقُولُ: سَبِيلًا وَسُنَّةً. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَوْضِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا"، يَقُولُ: سَبِيلًا وَسُنَّةً. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السُّنَّةُ وَالسَّبِيلُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} "، يَقُولُ: سَبِيلًا وَسُنَّةً. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي عَبِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: "شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا"، قَالَ: سَبِيلًا وَسُنَّةً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكُمْ لَجَعَلَ شَرَائِعَكُمْ وَاحِدَةً، وَلَمْ يَجْعَلْ لِكُلِّ أُمَّةٍ شَرِيعَةً وَمِنْهَاجًا غَيْرَ شَرَائِعِ الْأُمَمِ الْأُخَرَ وَمِنْهَاجِهِمْ، فَكُنْتُمْ تَكُونُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً لَا تَخْتَلِفُ شَرَائِعُكُمْ وَمِنْهَاجُكُمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَخَالَفَ بَيْنَ شَرَائِعِكُمْ لِيَخْتَبِرَكُمْ، فَيَعْرِفَ الْمُطِيعَ مِنْكُمْ مِنَ الْعَاصِي، وَالْعَامِلَ بِمَا أَمَرَهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُخَالِفِ. و"الِابْتِلَاءُ": هُوَ الِاخْتِبَارُ، وَقَدْ أَبَنْتُ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَقَوْلُهُ: "فِيمَا آتَاكُمْ"، يَعْنِي: فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكُتُبِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ، ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ، لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ مِنَ الْكُتُبِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَالَ: "لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ"، وَمَنِ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ؟ وَقَدْ ذَكَرْتُ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِقَوْلِهِ: " {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} " نَبِيُّنَا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُ وَأُمَمِهِمْ، وَالَّذِينَ قَبْلَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِدَةٍ؟ قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ وَإِنْ كَانَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْخَبَرُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ وَأُمَمِهِمْ. وَلَكِنَّ الْعَرَبَ مِنْ شَأْنِهَا إِذَا خَاطَبَتْ إِنْسَانًا وَضَمَّتْ إِلَيْهِ غَائِبًا، فَأَرَادَتِ الْخَبَرَ عَنْهُ، أَنْ تُغَلِّبَ الْمُخَاطَبَ، فَيَخْرُجُ الْخَبَرُ عَنْهُمَا عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَبَادِرُوا أَيُّهَا النَّاسُ، إِلَى الصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْقُرْبِ إِلَى رَبِّكُمْ، بِإِدْمَانِ الْعَمَلِ بِمَا فِي كِتَابِكُمُ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيِّكُمْ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَنْزَلَهُ امْتِحَانًا لَكُمْ وَابْتِلَاءً، لِيَتَبَيَّنَ الْمُحْسِنُ مِنْكُمْ مِنَ الْمُسِيءِ، فَيُجَازِي جَمِيعَكُمْ عَلَى عَمَلِهِ جَزَاءَهُ عِنْدَ مَصِيرِكُمْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ إِلَيْهِ مَصِيرَكُمْ جَمِيعًا، فَيُخْبِرُ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ بِمَا كَانَ يُخَالِفُ فِيهِ الْفِرَقَ الْأُخْرَى، فَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَتُبِينُ الْمُحِقَّ مَجَازَاتُهُ إِيَّاهُ بِجَنَّاتِهِ، مِنَ الْمُسِيءِ بِعِقَابِهِ إِيَّاهُ بِالنَّارِ، فَيَتَبَيَّنُ حِينَئِذٍ كُلُّ حِزْبٍ عَيَانًا، الْمُحِقُّ مِنْهُمْ مَنَ الْمُبْطِلِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَلَمْ يُنْبِئْنَا رَبُّنَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ مَرْجِعِنَا إِلَيْهِ مَا نَحْنُ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ؟ قِيلَ: إِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بِالرُّسُلِ وَالْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ، دُونَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَيَانًا، فَمُصَدِّقٌ بِذَلِكَ وَمُكَذِّبٌ. وَأَمَّا عِنْدُ الْمَرْجِعِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُنْبِئُهُمْ بِذَلِكَ بِالْمُجَازَاةِ الَّتِي لَا يَشُكُّونَ مَعَهَا فِي مَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِدْخَالِ اللَّبْسِ مَعَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. فَكَذَلِكَ خَبَرُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ يُنْبِئُنَا عِنْدَ الْمَرْجِعِ إِلَيْهِ بِمَا كُنَّا فِيهِ نَخْتَلِفُ فِي الدُّنْيَا. وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا، فَتَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ حِينَئِذٍ مِنَ الْمُبْطِلِ مِنْكُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: " {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} "، قَالَ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْوَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: " {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} "، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، الْكِتَابَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ فـ"أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ "التَّنْزِيلِ". وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: "بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ "، بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْكَ فِي كِتَابِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ"، فَإِنَّهُ نَهْيٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَّبِعَ أَهْوَاءَ الْيَهُودِ الَّذِينَ احْتَكَمُوا إِلَيْهِ فِي قَتِيلِهِمْ وَفَاجِرَيْهِمْ، وَأَمْرٌ مِنْهُ لَهُ بِلُزُومِ الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: " {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} "، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاحْذَرْ، يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ جَاءُوكَ مُحْتَكِمِينَ إِلَيْكَ "أَنْ يَفْتِنُوكَ"، فَيَصُدُّوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ مِنْ حُكْمِ كِتَابِهِ، فَيَحْمِلُوكَ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ. وَقَوْلُهُ: " {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} "، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِنْ تَوَلَّى هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ الَّذِينَ اخْتَصَمُوا إِلَيْكَ عَنْكَ، فَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا حَكَمْتَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَقَضَيْتَ فِيهِمْ " {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} "، يَقُولُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَلَّوْا عَنِ الرِّضَى بِحُكْمِكَ وَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ، إِلَّا مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَجَّلَ عُقُوبَتَهُمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِبَعْضِ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ " {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} "، يَقُولُ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ "لَفَاسِقُونَ"، يَقُولُ: لَتَارِكُو الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَخَارِجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ، وَابْنُ صُورِيَا وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ، لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ! فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ، وَأَنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعْنَا يَهُودَ وَلَمْ يُخَالِفُونَا، وَأَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةً، فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ، فَتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ، وَنُؤْمِنُ لَكَ وَنُصَدِّقُكَ! فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: " {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} "، إِلَى قَوْلِهِ: "لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ".» حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} "، قَالَ: أَنْ يَقُولُوا: "فِي التَّوْرَاةِ كَذَا"، وَقَدْ بَيَّنَّا لَكَ مَا فِي التَّوْرَاةِ. وَقَرَأَ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 45]، بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: دَخَلَ الْمَجُوسُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: " {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيَبْغِي هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ الَّذِينَ احْتَكَمُوا إِلَيْكَ، فَلَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِكَ، إِذْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِالْقِسْطِ "حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ"، يَعْنِي: أَحْكَامَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَعِنْدَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْحُكْمِ الَّذِي حَكَمْتَ بِهِ فِيهِمْ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُوَبِّخًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَبَوْا قَبُولَ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَمُسْتَجْهِلًا فِعْلَهُمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ: وَمَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ حُكْمًا، أَيُّهَا الْيَهُودُ، مَنِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِنْدَ مَنْ كَانَ يُوقِنُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَيُقِرُّ بِرُبُوبِيَّتِهِ؟ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيُّ حُكْمِ أَحْسَنُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أَنَّ لَكُمْ رَبًّا، وَكُنْتُمْ أَهْلَ تَوْحِيدٍ وَإِقْرَارٍ بِهِ؟ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} "، قَالَ: يَهُودُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} "، يَهُودُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا شَيْخٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} "، قَالَ: يَهُودُ.
|